في اوراق الدبلوماسي الاستاذ ابراهيم الولي ، الكثير مما يثير الاهتمام ، بيد ان حديثه عن حقبة توليه منصب رئيس التشريفات في عهد الرئيس الراحل عبد السلام عارف وروايته لجولات الرئيس في المحافظات الجنوبية والتي انتهت بمصرعه وكثير من رجال دولته عندما هوت بهم طائرتهم على مقربة من البصرة ، اثارت في شجونا ، فقد كان مقررا ان اكون – انا الآخر- الى جانب الرئيس في تلك الطائرة حسب توجيهاته لي وبحكم عملي الوظيفي .وقد اجاد الاستاذ الولي بذكر الاحداث بجزئياتها ولم يكتف بذلك ، بل قدم لنا ملحوظاته وانطباعاته عنها ، وها أنذا أترككم مع المؤلف الفاضل يحدثكم عنها كما وردت على لسانه ، واود ان اختتم مقدمتي الموجزة هذه بالقول انني تعمدت الا اتدخل في النص فهو شهادة عيان خاصة بكاتبها ، وانني لآمل ان يتاح لي يوما ان أدون شهادتي بخصوص رحلات الرئيس مما سيتكامل مع الصورة الدقيقة التي قدمها الاستاذ الولي ، فثمة معلومات جديدة لعل في مقدمتها زيارة الرئيس الى المْدَيْنَة وخطابه فيها وما كان من حديث متبادل بين الرئيس – رحمه الله – وبين كاتب هذه السطور قبل رحلة البصرة مما قد يلقي ضوءا ،ويقربنا من فهم تلك الحقبة المهمة في حياتنا
وبعد : يسعدني ان أترككم مع المؤلف الفاضل ليحدثكم عن رحلات الرئيس عبد السلام عارف كما وردت على لسانه
زيارة الرئيس الى مدينة النجف
******************
(… في أول جولة طرنا الى مدينة النجف ومن سماء المدينة شاهدت مقابر تحيط بالمدينة في محيط لا نهاية له يمتد من الأفق البعيد ليطبق على الشوارع الخارجية للمدينة، إنها قبور المسلمين من كل بلاد المسلمين ، غاية ما يتمنون أن يرقدوا قرب أمير المؤمنين الإمام علي ، عليه السلام وعليهم جميعا رحمة الله. )
زيارة الرئيس الى مدينة الحي
******************
كانت الزيارة الثانية (… لمدينة الحي في محافظة الكوت حيث هبطت الطائرات وذهب الرئيس ورهطه في سيارات مكشوفة يطوفون المدينة وبقيت أنا مع النقيب الطيارخالد محمد نوري ، إذ لا دور لي في جولة كهذه. تجاذبت أطراف الحديث مع الطيار الشاب المقرب من الرئيس وقلت له إنني أركب هذه الطائرة للمرة الثانية في حياتي ، وأنا لا أخشى الطيران المدني أما في هذه الطائرة فأنا أشعر وكأني في غرفة معلقة في الهواء. قال : إن هذه الطائرة أمينة الى حد كبير إلا إذا دخلت في زوبعة من الفتالات أو الرياح الدوامية whirl wind ففي هذا مقتل الطائرة (سيأتي ذكر هذه الملاحظة فيما بعد).
زيارة الرئيس الى مدينة البصرة
********************
(…عدنا بعدها الى بغداد وسارت الحياة في روتين من المقابلات الى أن جاء يوم زيارة محافظة البصرة وكان ذلك بعد أقل من ثلاث أشهر على عملي هذا. أمرنا بالسفر الى البصرة بطائرة الخطوط الجوية العراقية في رحلتها العادية ولم يكن الرئيس معنا. كانت مناسبة أن طرنا فوق هور الحمّار ومداخله ومخارجه من مئات القنوات التي تشكل دلتا رائعة المنظر من الجو كما رأيت التقاء دجلة والفرات في القرنة ليكونّا شط العرب. لحق بنا الرئيس وبعض صحبه
…بدأ البرنامج من البصرة الى أبي الخصيب جنوبا لوضع حجر الأساس لمعمل الأسمدة الكيماوية وكان الدكتور محمد ناصر وزير الإرشاد سعيدا بصورة خاصة فهو من أهالي أبي الخصيب وهي بالمناسبة مسقط رأس شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب.
عدنا الى البصرة لحضور حفل عشاء كبير في الهواء الطلق خارج مدينة الزبير في منطقة الأثل, وهي أشجار إبرية الأوراق تساعدها على العيش في الصحاري ذلك لأن أوراقها تقلل من التبخر. في هذا الحفل الذى حضره قناصل الدول الأجنبية المعتمدين في البصرة لكونها ميناء العراق الهام ، كان القنصل البريطاني وخلفه مترجم في مقدمة الجلوس، وقف الرئيس يلقي كلمة سياسية تعرض فيها للإستعمار البريطاني وكنا نقف خلفه وبيننا محافظ البصرة المرحوم محمد الحياني، فما كان من الحياني إلا أن ينبه الرئيس بحركة تلفت النظر الى وجود القنصل البريطاني مما استفز الرئيس عارف إذ رد بشكل عفوى بما معناه ( واذا كان) وقد لاحظت المترجم يشرح للقنصل البريطاني معنى الملاحظة التي كان فيها شىء من الاستهانة . وهكذا مر الإحتفال في جو غير مريح، والحق أقول :ما كان على الرئيس أن يصدر عنه رد فعل عفوى كهذا.)
اليوم الثاني في البصرة
1966\04\13
************
) كان البرنامج كالآتي: مغادرة فندق المطار في العاشرة بالسيارات الى ) الهارثة ( وهي منتصف الطريق بين البصرة والقرنة لوضع حجر الأساس لمصنع الورق وبعدها نغادر الى قرية (الخاص(وهي تقع على الحافة الجنوبية لهور الحمَار ثم نستمر بالسيارات ايضا على طريق غير ممهد يمر في الهور لنصل الى (المدينة) التي تقع على الجانب الآخر من نهر الفرات وليس فيها جسر في ذلك الوقت ، ولهذا عبرت السيارات والمشاة في عبَّارة ، وتكون العودة الى القرنة ظهرا لتناول الغداء على مائدة أهل القرنة في ناديها الواقع عند ملتقى دجلة والفرات تماما. وبعد الغداء يحضر الرئيس احتفالا بسيطا في الملعب البلدى في القرنة ثم نعود بالسيارات أو بطائرات الهليكوبتر الى البصرة لحضور حفل عشاء كبير يقيمه أهل البصرة في فندق المطار تكريما للرئيس وأن نعود الى بغداد صباح اليوم التالي. هكذا كان البرنامج المرسوم لكن ما وقع كان غير ذلك…. وتقدرون فتضحك الأقدار.
لقد سار البرنامج كما هو مرسوم له .. في الهارثة من احتفال وضع حجر الأساس لمصنع الورق إستأذن الدكتور محمد ناصر من الرئيس أن لا يكمل الرحلة وأن يعود الى أبي الخصيب لوداع والدته فسمح الرئيس بذلك وهو لا يدري أن الدكتور ناصر قد كتبت له حياة جديدة. بقي مع الرئيس وزير الصناعة والحاشية. وسار البرنامج ولكن دون مراعاة للمواعيد فقد طالت زيارة (الخاص) و (المدينة) أكثر مما هو مقرر مما أخر وصولنا الى القرنة الى ما بعد العصر،
وقد لاحظت أن الموائد كانت مليئة بالأسماك المشوية الباردة، وعلى أية حال رأينا الرئيس يدخل ليصلي صلاة العصر ثم توجهنا الى الملعب البلدي لمشاهدة فعاليات مدارس القرنة وقراءة الشعر والأناشيد والفعاليات الرياضية وما الى ذلك من فوضى احتفالية أوصلتنا الى هبوط الظلام مساءا وبعدها وكانت الساعة السابعة مساء لاحظت وجود 3 طائرات هليوكوبتر في داخل الملعب فضلا عن سياراتنا ولم أكن أعرف حتى لتلك الساعة بأى واسطة سنعود. من المعروف أن بعض الرؤساء بل ومعظمهم يحاولون التمويه على الطريق الذى يسلكونه والواسطة التي يستخدمونها، فهمت أن تأخير الوقت رجح ركوب الطائرة ،
توجهنا لطائرة الرئيس الأولى وصعد الرئيس اليها وتبعه الوزيران عبد اللطيف الدراجي ،الداخلية ، و مصطفى عبد الله ،الصناعة ،و محمد الحياني ،متصرف البصرة . و العميد زاهد المرافق الأقدم والسكرتير عبد الله مجيد ،و ضابط كهرباءمحمد عبد الكريم ،ووبرّاد كريم حميد رحمة الله عليهم . وكان المفروض أن نصعد أخيرا أنا والمقدم الركن فاضل مصطفى احمد وهو من حاشية الرئيس العسكرية. وهنا حدث أمران ليسا بالحسبان فقد حاول شخصان الصعود الى الطائرة قلت لهما أن هذا غير ممكن رجاءا ولعلكما تركبان الطائرة الثانية ، لكن المقدم فاضل نبهني الى أن هذين الشخصين من أصدقاء الرئيس وهما وكيل وزارة الصناعه(عبد الهادي الحافظ) والمدير العام لشركة الكهرباء الوطنية ( جهاد احمد فخري الجدوع)، وشاورني أن نسمح لهما بالصعود فهما يريدان التحدث الى صديقهما الرئيس، أما نحن فنركب الطائرة الثانية لنتسامر مع عبدالعزيز بركات الصحفي المعروف صاحب جريدة المنار ، وقبل أن يغلق باب الطائرة جاءنا محافظ ذى قار السيد بايز عزيز يريد ويلح في الرجاء أن نسمح له بالصعود ليدعو الرئيس الى زيارة محافظة ذي قار وقال لي وهو يشير الى وفد ليس بعيدا عنا أن هذا الوفد هم من أهالي الناصرية وقد قالوا أنك من تلك المحافظة وأنك ستساعدنا. قلت للرجل ، وسبحان مقرر الآجال، أنا لا أستطيع أن أدخلك هذه الطائرة وأرجوك أن تأخذ الطائرة الثانية معنا وأنا أتعهد لك بشرفي أنك ستقابل الرئيس في مطار البصرة، قبل الرجل على مضض وهو لا يدرى أن عمرا كتب له ومنية كتبت على الصديقين اللذين رافقا الرئيس.
أقلعت طائرة الرئيس وكانت الساعة السابعة الا عشراً مساءا وكان الجو مغبرا مظلما وفيه زوابع محسوسة، وتبعتها طائرتنا بعد دقيقة وكنا فيها ومعنا نقيب الصحفيين العراقيين فيصل حسون وعبدالعزيز بركات واحمد الحسو ومحافظ الناصرية، ورئيس بلدية الناصرية، بايز عزيز و شاكر الغرباوي في جو مضطرب ، وإذ صعدت الطائرة في جو مضطرب ، علق الأخ الصديق والقريب فيصل بقوله: لقد صدق الشاعر شوقي إذ قال عن الطائرة “أركب الأهوال ولا أركبها”. وبعد دقائق من إعتدال الطيران فوق شط العرب شعرنا أن الطائرة دارت حول نفسها وعادت أدراجها ، تبينا ذلك من النيران التي كانت تشعل في الملعب البلدي للإستدلال عليه من الجو، وهكذا هبطت بنا الطائرة في الملعب ساعة السابعة و النصف ونحن لا ندري ما الأمر ذلك أن الهليوكوبتر العسكرية ليس فيها إتصال بين قائدها وبين ركابها فهو في قمرة القيادة فوق الركاب ولا سبيل للوصول اليهم الا عند الهبوط وفتح الأبواب. فتح باب الطائرة وأطل منها نقيب طيار منذر سليمان عزت يصيح مذعورا وهو يوجه الكلام الى المقدم فاضل : سيدى فقدنا كل اتصال بطائرة الرئيس فجأة .. وهنا تصرف العسكري بأن أنزلنا من الطائرة وأمر الطيار بالصعود للبحث عن طائرة الرئيس. وعادت الطائرة وفيها الطيار والمقدم فاضل بعد أن قاموا بجولة في الظلام الدامس حول شط العرب دون جدوى ٠(سقطت طائرة الرئيس بعد عشرين دقيقة من اقلاعها ) واستقل باقي أفراد الحاشية السيارات في محاولة حرة في المنطقة الواقعة بين الهارثة والقرنة وكنا نعلق الأمل على كل بصيص ضوء بعيد نسعى اليه فلا نجد أثرا للطائرة المنكوبة. وبعد أن يأسنا جميعا من العثور على أثر، اتجهنا بالسيارات الى مطار البصرة حيث كان سكان المدينة بانتظار الرئيس وصحبه على حفل العشاء. وعندما وصلت أنا المطار قابلني صديق قديم هو المرحوم عبدالرحمن سليمان الذكير وعلى وجهه علامات الدهشة يتساءل عما أخرنا الى هذا الوقت وهم بانتظارنا منذ ساعات طويلة. قلت له : عبدالرحمن الأفضل أن تعود لبيتك فقد وقع حادث رهيب لا ندري بالضبط أبعاده ، فقد فقدت طائرة الرئيس عبدالسلام عارف ومن معه من الحاشية، وبالفعل غادرني عبدالرحمن مسرعا الى بيته وصعدت الى الجناح الذى كنا فيه فوجدت الدكتور محمد ناصر وقد عاد لتوه من أبو الخصيب حيث استأذن صباحا لرؤية والدته… وقد وجدته يكلم رئيس الوزراء المرحوم الدكتور عبدالرحمن البزاز هاتفيا ويقول له بالانجليزية إن طائرة الرئيس قد فقدت، ولهذا أعلن رئيس الوزراء حالة الطوارىء في العراق وبدأت إذاعة بغداد في بث تلاوة متصلة من القرآن الكريم مما أوقع الناس في حيرة وذهول من أمر لا يدرون ما هو عدا أنه بالتأكيد أخبار سيئة.
تشكلت غرفة عمليات صغيرة وطلبت من القوة الجوية العراقية القيام بمسح جوى للمنطقة الشرقية من شط العرب وبالفعل قام قائد طائرة ميج ٢١مع أول إنكشاف ضوء الصباح الجولة وسرعان ما عاد وترجل من الطائرة ليقول للجمع المنتظر في المطار أن طائرة الرئيس قد احترقت هي وركابها بالكامل وأن الجثث كانت منتشرة على مساحة من حطام الطائرة. عرفنا القضية إذن ، فطائرة الرئيس وقعت بالفعل في زوبعة دائرية من تلك التي يكثر حدوثها في المنطقة في ذلك الوقت بالذات فانجرفت الى الجهة الشرقية من الشط في منطقة مستنقعات ومالت على جانبها فارتطمت مروحة الطائرة بالأرض مما سبب سقوطها وتعثرها ومما أدى الى إشتعال وإنفجار خزانات النفط الموجودة تحت مقاعد الركاب ( الجدير بالذكر أن هذه الطائرة ذات محركين نفاثين يعملان بوقود K.T.A.وهما كما أسلفت من طراز رولز رويس كما أنها مسلحة برشاشين في مقدمتها.
وصلت عدة طائرات من بغداد في الصباح الباكر وقد دعيت لأعود بإحداها فاعتذرت واستأجرت سيارة أجرة وأخذت معي أحد ضباط الحاشية وتوجهنا الى بغداد وكنا نتوقف في عدة نقاط تفتيش في الطريق بالنظر لحالة منع التجول، وهكذا وصلت عصر ذلك اليوم الى بيتي في بغداد لأجد زوجتي في حالة حزن وقلق وحولها نسوة من الجيران وكانوا قد يأسوا مني إذ أن البيان الذى صدر من الحكومة أعلن بكل أسف فقدان رئيس الجمهورية إذ وافته وثلة من الحاشية المنية في حادث طائرة مؤسف. لزوجتي الحق إذن في حزنها وقلقها فأنا من الحاشية .. ألست رئيس التشريفات في رئاسة الجمهورية! على أن الأمر توضح لهم عند الظهر حيث أبلغتهم وزارة الدفاع بأسماء المفقودين وأنا لست من بينهم. حمدت الله وترحمت على المتوفين وبدأت مهام صعبة تنتظرنا.)